[center]عظم الله أجورنا وأجوركم بذكرى إستشهاد الإمام زين العابدين إبن رسول الله (ص) علي بن الحسين بن علي (السّجاد) عليه السلام
روي أن هشام بن عبد الملك حجَّ في أيام أبيه عبد الملك بن مروان فطاف بالكعبة المشرفة ، فلما أراد أن يستلم الحجر الأسود لم يتمكن بسبب الزحام ، و كان أهل الشام حوله ، و بينما هو كذلك إذ أقبل الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السَّلام)، فلما دنا من الحجر ليستلم تنحى عنه الناس إجلالاً له و هيبةً و احتراماً حتى استلم الحجر بسهولة و يسر ، و هشام و أصحابه ينظرون و الغيظ و الحسد قد أخذ منهم مأخذاً عظيماً .
فقال رجل من الشاميين لهشام : من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة ؟
فقال هشام ـ كذباً ـ : لا أعرفه .
فسمع الفرزدق ذلك ـ و كان حاضراً ـ فاندفع و قال : أنا أعرفه ، ثم أنشد قصيدته الرائعة :
هذَا ابْنُ خَيْرِ عِبادِاللَّهِ كُلِّهِمُ *** هذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطّاهِرُ الْعَلَمُ
هذَا ابْنُ فاطِمَةَ إِنْ كُنْتَ جاهِلَهُ *** بِجَدِّهِ أنْبِياءُ اللَّهِ قَدْ خُتِموا
هذَا الَّذي تَعْرِفُ الْبَطْحاءُ وطْأَتَهُ *** و الْبَيْتُ يَعْرِفُهُ و الْحِلُّ و الْحَرَمُ
مَنْ جَدُّهُ دانَ فَضْلُ الْأَنْبِياءِ لَهُ *** و فَضْلُ أُمَّتِهِ دانَتْ لَهُ الْأُمَمُ
وَ لَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هذا بِضائِرِهِ *** ألْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أنْكَرْتَ و الْعَجَمُ
أللَّهُ شَرَّفَهُ قِدْماً و فَضَّلَهُ *** جَرى بِذاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ القَلَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ *** طابَتْ عَناصِرُهُ و الخِيمُ و الشِّيَمُ
يَنْشَقُّ ثَوْبُ الدُّجى عَنْ نورِ غُرَّتِهِ *** كاَلشَّمْسِ يَنْجابُ عَنْ إِشْراقِهَا الْقَتَمُ
إِذا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قالَ قائِلُها *** إِلى مَكارِمِ هذا يَنْتَهي الْكَرَمُ
يُغْضِي حَياءً و يُغْضى مِنْ مَهابَتِهِ *** فَما يُكَلَّمُ إِلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرفانَ راحَتِهِ *** رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذا ما جاءَ يَسْتَلِمُ
كِلْتا يَدَيْهِ غِياثٌ عَمَّ نَفْعُهُما *** يَسْتَوْكِفانِ و لا يَعْروُهُمَا الْعَدَمُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لا تُخْشى بَوادِرُهُ *** يُزِينُهُ إِثْنانِ حُسْنُ الْخُلْقِ و الْكَرَمُ
حَمّالُ أَثْقالِ أَقْوامٍ إِذا فُدِحوا *** حُلْوُ الشَّمائلِ تَحْلوُ عِنْدَهُ نَعَمُ
لا يُخْلِفُ الْوَعْدَ مَيْمُونٌ نَقيبَتُهُ *** رَحْبُ الْفِناءِ أَريبٌ حِينَ يَعْتَزِمُ
عَمَّ الْبَرِيَّةَ بِالْإِحْسانِ فَانْقَشَعَتْ *** عَنْهاَ الغَيابَةُ و الْإِمْلاقُ و الْعَدَمُ
يُنْمى إِلى ذُرْوَةِ الْعِزِّ الَّتي قَصُرَتْ *** عَنْ نَّيْلِها عَرَبُ الْإِسْلامِ و الْعَجَمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دينٌ و بُغْضُهُمُ *** كُفْرٌ و قُرْبُهُمُ مَنْجى و مُعْتَصَمُ
إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقى كانوا أَئِمَّتَهُمْ *** أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأرْضِ قِيلَ هُمُ
لا يَسْتَطِيعُ جَوادٌ بُعْدَ غايَتِهِمْ *** و لايُدانِيِهِمُ قَوْمٌ و إِنْ كَرُموا
هُمُ الْغُيوثُ إِذا ما أَزْمَةٌ أَزَمَتْ *** و الْأُسْدُ أُسْدُ الشَّرى و الْبَأْسُ مُحْتَدِمُ
لا يَقْبِضُ الْعُسْرُ بَسْطاً مِنْ أَكُفِّهِمُ *** سِيِّانَ ذلكَ إِنْ أَثْرَوْا و إِنْ عَدِموا
يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ و الْبَلْوى بِحُبِّهِمُ *** و يُسْتَرَبُّ بِهِ الْإِحْسانُ و النِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُهُمُ *** في كُلِّ بَدْءٍ و مَخْتومٍ بِهِ الْكَلِمُ
يَأْبى لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ الذَمُّ ساحَتَهُمْ *** خِيمٌ كرِيمٌ و أَيْدٍ بِالنَّدى هُضُمُ
أَيُّ الْخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقابِهِمُ *** لِأَوَّلِيَّةِ هذا أَوْلَهُ نَعَمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذا *** فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هذا نالَهُ الْأُمَمُ
ثم قال الفرزدق هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السَّلام) .
فثار هشام و أمر باعتقال الفرزدق ، فاعتقل و اُودع في سجون عسفان وهو منزل يقع ما بين مكة والمدينة ، و بلغ ذلك الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) فبعث إليه بإثني عشر ألف درهم ، فردَّها الفرزدق ، و قال : إني لم أقل ما قلت إلا غضباً لله و لرسوله ، و لا آخذ على طاعة الله أجراً ، فأعادها الإمام (عليه السَّلام) و أرسل إليه : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما اعطينا ، فقبلها الفرزدق .
وجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في السجن ، ومما هجاه به :
أيحسبني بينَ المدينةِ والتي *** إليها قلوبُ الناس يَهوي مُنيبها
يُقلِّبُ رأساً لم يكن رأسَ سيدٍ *** وعينٌ له حولاءَ بادٍ عُيوبها
فلما وصل هجاء الفرزدق لهشام ، أمر بإطلاقه ، فأطلق سراحه .
خطبة زين العابدين الإمام علي بن الحسين (السَّجاد) عليه السلام بالشام
لقد استطاع الإمام زين العابدين (ع) حينما أُخذ أسيراً إلى الشام أن يحول مجلس يزيد بن معاوية إلى مأتم عزاء للإمام الحسين (ع) وأن يفضح يزيد الذي دعا وجوه أهل الشام وأجلسهم حوله وأمر بإدخال علي بن الحسين والرؤوس والسبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال ، فقال له علي بن الحسين : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا على مثل هذه الحالة ؟ فلم يبق أحد ممن كان حاضراً إلا بكى .
فأمر يزيد بخطيب أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه (صلوات الله عليهما)، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد، وأطنب في مدح معاوية ويزيد، فذكرهما بكل جميل. فصاح به علي بن الحسين (عليهما السلام):
ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار.
ثم قال: يا يزيد أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب، فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر، فلعلنا نسمع منه شيئاً.
فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان.
فقيل له: وما قدر ما يحسن هذا؟
فقال: إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً، فلم يزالوا به حتى أذن له فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى علي، ثم خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب، ثم قال:
أيها الناس: أعطينا ستاً وفضلنا بسبع، أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منّا النبي المختار محمداً (صلّى الله عليه وآله) ومنّا الصديق، ومنّا الطيار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سيدة نساء العالمين، ومنّا سبطا هذه الأمة، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أيها الناس: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبّى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أن ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بسيفين وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين وناصر دين الله، وولي أمر الله، ولسان حكمة الله، وعيبة علمه، سمح سخي، بهلول زكي، أبطحي رضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوّام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة، طحن الرحى، ويذروهم ذرو الرياح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكي مدني، حنيفي عقبي، بدري أحدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام).
[center]